فصل: تفسير الآيات رقم (4- 5)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد ***


سورة الطلاق

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 3‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا ‏(‏1‏)‏ فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا ‏(‏2‏)‏ وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا ‏(‏3‏)‏‏}‏

‏{‏ياأيها النبي إِذَا طَلَّقْتُمُ النسآء فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُواْ العدة واتقوا الله رَبَّكُمْ لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلاَ يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ الله وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ الله فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لاَ تَدْرِى لَعَلَّ الله يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُواْ ذَوَي عَدْلٍ مِّنكُمْ وَأَقِيمُواْ الشهادة لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ يُؤْمِنُ بالله واليوم الآخر‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏‏.‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏يا أيها النبيُّ إِذا طلقتم النساءَ‏}‏، خصَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم بالنداء، وعمَّ بالخطاب؛ لأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم إمام أمته وقدوتهم، كما يُقال لرئيس القوم‏:‏ يا فلان افعلوا كذا وكذا؛ إظهاراً لتقدُّمه، واعتباراً لترؤسه، وأنه قدوة قومه، فكان هو وحده في حكم كلّهم، وسادًّا مسدَّ جميعهم‏.‏ ومعنى «إذا طلقتم»‏:‏ إذا أردتم تطليقهن، كقوله‏:‏ ‏{‏إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصلاة‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 6‏]‏، تنزيلاً للمقبل على الشيء المشارِف له منزلةَ الشارع فيه، كقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «مَن قتل قتيلاً فله سلبه»، ومنه‏:‏ كان الماشي إلى الصلاة والمنتظر لها في حكم المُصَلِّي‏.‏ ‏{‏فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ‏}‏ أي‏:‏ مستقبلات لِعِدَّتهن، شارعة فيها، بمجرد الطلاق، من غير أن تكون في حيض أو نِفاس، فإنَّ المرأة إذا طلقت في طُهر تعتد بذلك الطُهر من أقرائها، فتخرج من العدّة برؤية الحيض الثالث، بخلاف إذا طُلقت في غير طُهر، فتنتظر الطُهر منه، فلا تخرج إلاّ برؤية الحيض الرابع‏.‏ والمراد أن يُطلِّق في طُهر لم يمس فيه، وهذا هو طلاق السُنَّة‏.‏ قال ابن جزي‏:‏ واختلف في الطلاق‏:‏ هل هو مباح أو مكروه، وأمّا إن كان على غير وجه السُنة فهو ممنوع‏.‏ ه‏.‏ وفي قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «فطلِّقوهن في قُبل عِدّتهن»‏.‏

قال ابن جزي‏:‏ واختلف في النهي عن الطلاق في الحيض، هل هو معلَّل بتطويل العدة، أو تعبُّد، والصحيح‏:‏ أنه معلَّل بذلك، وينبني على هذا الخلاف فروع، منها‏:‏ هل يجوز إذا رضيت به المرأةُ أم لا‏؟‏ ومنها‏:‏ هل يجوز طلاقها في الحيض وهي حامل أم لا‏؟‏ ومنها‏:‏ هل يجوز طلاقها قبل الدخول وهي حائض أم لا‏؟‏ فالتعليل بتطويل العدة يقتضي جواز هذه الفروع، والتعبُّد يقتضي المنع، ومَن طَلَّق في الحيض لزمه الطلاق، ثم أُمر بالرجعة على وجه الإجبار عند مالك، ودون إجبار عند الشافعي حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر، ثم إن شاء طلَّق وإن شاء أمسك، حسبما ورد في حديث ابن عمر، حيث طلّق امرأته، فأمره صلى الله عليه وسلم برجعتها ه‏.‏

‏{‏وأَحْصُوا العِدَّةَ‏}‏؛ اضبطوها، وأكمِلُوها ثلاثة أقراء كوامل، لِما ينبني عليها من الأحكام، كالرجعة والسكنى والميراث وغير ذلك، ‏{‏واتقوا اللهَ ربكم‏}‏ في تطويل العدة عليهن والإضرار بهن‏.‏

وفي التعبير بعنوان الربوبية تأكيد لِما أمر، ومبالغة في إيجاب الاتقاء‏.‏

‏{‏لا تُخرجوهن من بيوتهن‏}‏؛ من مساكنهن عند الفراق إلى أن تنقضي عدتهن، وإضافتها إليهن مع أنها للأزواج لتأكيد النهي ببيان كمال استحقاقهن لسكانها، كأنها أملاكهن‏.‏ ‏{‏ولا يَخْرُجْن‏}‏ ولو بالإذن منكم، فإنَّ الإذن في الخروج في حكم الإخراج، وقيل‏:‏ لا يخرجن باستبدادهن، أمّا إذا اتفقا على الخروج جاز، وهو خلاف مذهب مالك، فلا يجوز لها في مذهبه المَبيت عن بيتها، ولا أن تغيب عنه، إلاّ لضرورة التصرُّف، وذلك لحفظ النسب، وصيانة المرأة، فإن كان المسكن ملكًا للزوج، أو مكترىً عنده لزمه إسكانها فيه، وإن كان المسكن لها فعليه كِراؤه مدة العدة، وإن كان قد استمتعته فيه مدة الزوجية؛ ففي لزوم خِراج العدة له قولان في المذهب، والصحيح لزومه؛ لأنّ الاستمتاع قد انقطع بالطلاق‏.‏

‏{‏إِلاَّ أن يأتين بفاحشةٍ مبيِّنة‏}‏، قيل‏:‏ الزنا، فيخرجن لإقامة الحد، قاله الليثي والثعلبي، وقيل‏:‏ سوء الكلام وإظهار الفحش مع الأصْهار، فتخرج ويسقط حقها من السكنى، وتلزمها الإقامة في مسكن تتخذه حفظاً للنسب‏.‏ قاله ابن عباس، ويؤيده‏:‏ قراءة أُبي‏:‏ «إلاَّ أن يفحشن عليكم»، وقيل‏:‏ جميع المعاصي من القذف والسرقة وغير ذلك‏.‏ قاله ابن عباس أيضاً‏.‏ ومال إليه الطبري‏.‏ وقيل‏:‏ الخروج من بيتها خروجَ انتقال، متى فعلت ذلك سقط حقها‏.‏ قاله ابن الفرس، وإلى هذا ذهب مالك في المرأة إذا نشزت في العدة، وقيل‏:‏ هو النشوز قبل الطلاق، فإذا طلّقها بسبب نشوزها فلا سكنى على زوجها قاله قتادة‏.‏

‏{‏وتلك حدودُ الله‏}‏ أي‏:‏ تلك الأحكام المذكورة هي حدود الله التي عيّنها لعباده، ‏{‏ومَن يَتَعَدَّ حدودَ الله‏}‏ المذكورة، بأن يُخلّ بشيء منها، على أنَّ الإظهار في محل الإضمار لتهويل أمر التعدي، والإشعار بعلة الحكم، ‏{‏فقد ظَلَمَ نفسه‏}‏؛ أضرَّ بها، إذ لعله يندم‏.‏ والتفسير بتعريضها للعذاب يأباه قوله‏:‏ ‏{‏لا تدري لعل اللهَ يُحدِثُ بعد ذلك أمراً‏}‏ فإنه استئناف مسوق لتعليل مضمون الشرطية، وقد قالوا‏:‏ إنَّ الأمر الذي يُحدثه اللهُ تعالى‏:‏ هو أن ينقلب قلبه بُغضها إلى محبتها، أو‏:‏ من الرغبة عنها إلى الرغبة فيها، ويندم، فلا بد أن يكون الظُلم عبارة عن ضرر دنيوي يلحقه بسبب تعدِّيه، وهو الندم إن كان طلَّق ثلاثاً، فيمنع من الرجعة، أو‏:‏ الحياء، إن كان إخراجها من المسكن بلا سبب، أو‏:‏ فقد ظَلَمَ نفسَه بتعريضها للعذاب الشامل؛ الدنيوي والأخروي، حيث خالف ما أمره سيده‏.‏ ‏{‏لاتدري‏}‏ أيها المخاطب ‏{‏لعل اللهُ يُحِدثُ بعد ذلك أمراً‏}‏ وهو الرجعة، والمعنى‏:‏ أحصوا العِدَّة وامتثلوا ما أُمرتم به، لعل الله يُحدث الرجعة لنسائكم‏.‏

‏{‏فإذا بَلَغْنَ أجلَهن‏}‏ أي‏:‏ قاربن آخر العِدَّة ‏{‏فأمْسِكُوهنَّ‏}‏؛ راجعوهن ‏{‏بمعروفٍ‏}‏ بحُسن معاشرة وإنفاقٍ لائق، ‏{‏أو فارِقوهنَّ بمعروفٍ‏}‏ بإعطاء الصداق والإمتاع حين الطلاق، والوفاء بالشروط‏.‏

والمعنى‏:‏ فأنتم بالخيار؛ إن شئتم فالرجعة والإمساك بالمعروف، وإن شئتم فترك الرجعة والمفارقة واتّقاء الضرر، وهو أن يُراجعها في آخر عدتها ثم يُطلٍّقها، تطويلاً لعِدتها وتعذيباً لها، ‏{‏وأَشْهِدوا‏}‏ عند الرجعة والمفارقة ‏{‏ذَوَيْ عَدْلٍ منكم‏}‏ من المسلمين، وهذا الإشهاد مندوب على المشهور لئلا يقع بينهما التجاحد‏.‏ وفي قوله‏:‏ ‏{‏ذوي عدل‏}‏ دلالة على أنهم ذكور، فلا تجوز شهادة النساء في النكاح ولا في الطلاق عند الجمهور‏.‏ ‏{‏وأقيموا الشهادةَ للهِ‏}‏ أيها الشهود عند الحاجة إليها، خالصاً لوجهه تعالى‏.‏ ‏{‏ذلكم‏}‏ إشارة إلى الحث على الإشهاد في الرجعة، أو‏:‏ إلى جميع ما ذكر، ‏{‏يُوعظ به مَن كان يؤمن بالله واليوم الآخر‏}‏ إِذ هو المنتفِع به، والمقصود بتذكيره‏.‏

الإشارة‏:‏ إذا طلقتم الدنيا وحظوظَ نفوسكم؛ فليكن ذلك إلى أجل معلوم، وهو الرسوخ والتمكين بعد الوصول، وأَحْصُوا العدّة‏:‏ اضبطوا أيام سيركم لئلا تضيع في البطالة أو الفضول، واتقوا ما سوى ربكم أن تلتفتوا إليه، لا تُخرجوا نفوسكم من أشباحها بشِدة مجاهدتها، فإنها مَغرفة السر، ومطيّة السير، نَبَرُّ بها فيما تقوم بها من مآكل وملبس ونُخالف هواها، ولا يَخرجن، إي‏:‏ ولا تتركوها أن تخرج من عش التربية قبل الترشيد، إلاّ أن تطغى وتفحش، فبالِغ في مجاهدتها بما يقارب موتها، وتلك حدود الله التي حَدّها للسائر، ومَن يتعدَّ شيئاً منها فقد ظلم نفسه، إمّا بتفريط أو إفراط، فصاحب التفريط لا يصل، وصاحب الإفراط لا يدوم، لا تدري أيها السائر لعل اللهَ يُحدث بعد ذلك انقياداً وتسهيلاً، فإذا بلغ أجل الوصول، وحل التمكين، فلا ميزان على النفس، إن شاء أمسك عليها إبقاء، وإن شاء غاب عنهما فناء، وأشهِدوا ذّوّيْ عدل منكم، وهم أهل الفن، فلا يخرج مِن ربقة المجاهدة وعش الإرادة، حتى يشهد له الشيخ أو أهل الفن‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

ثم حَضَّ على التقوى التي هي مجمع الخير، فقال‏:‏

‏{‏‏.‏‏.‏‏.‏ وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى الله فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ الله بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ الله لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً‏}‏‏.‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏ومَن يَتَّقِ اللهَ‏}‏ بأن طلَّق للسُنَّة، ولم يُضار بالمعتدّة، ولم يُخرجها من مسكنها، واحتاط في الإشهاد، وغير ذلك، ‏{‏يجعل له مخرجاً‏}‏ مما عسى يقع في شأن الأزواج من الغموم والمضائق، ويُفرِّج عنه ما يعتريه من الكروب‏.‏ رُوي عن ابن عباس أنه قال لمَن طَلَّق ثلاثاً‏:‏ «إنك لم تتق الله، فبانت منك امرأتك»‏.‏ والمختار‏:‏ أنَّ الآية عامة، أي‏:‏ ومَن يتق الله في أقواله وأفعاله وأحواله يجعل له مخرجاً من كرب الدنيا والأخرة‏.‏ وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأها، فقال‏:‏ «مخرجاً من شُبهات الدنيا، ومن غمرات الموت، ومن شدائد يوم القيامة»

، قال ابن جزي‏:‏ وهذا أي العموم أرجح من خمسة أوجه، الأول‏:‏ حمل اللفظ على عمومه، فيدخل فيه الطلاق وغيره‏.‏ والثاني‏:‏ رُوي‏:‏ أنها نزلت في عوف بن مالك الأشجعي، وذلك أنه أُسر ولده، وضُيِّق عليه رزقه، فشكا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمره بالتقوى، وقال له‏:‏ «أَكْثِرْ من‏:‏ لاحَول ولا قوة إلاّ بالله» فلم يلبث إلاَّ يسيراً، وانطلق ولده، ووسع عليه زرقه‏.‏ والثالث‏:‏ أنه رُوي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ «إني لأَعْلمُ آية لو أخذ الناسُ بها لكفتهُم ‏{‏ومَن يتق الله يجعل له مخرجاً‏}‏» فما زال يكررها، انظر بقيته‏.‏

‏{‏ويَرْزُقه من حيثُ لا يحتسب‏}‏ أي‏:‏ من وجوه لاتخطر بباله ولا بحسبه، ‏{‏ومَن يتوكل على الله‏}‏ أي‏:‏ يكل أمرَه إليه من غير تعلُّق بغير، ولا تدبير نفس، ‏{‏فهو حَسْبُه‏}‏؛ كافيه في جميع أموره، ‏{‏إِنَّ اللهَ بالغُ أَمْرِه‏}‏، بالإضافة في قراءة حفص، أي‏:‏ منفذاً أمره، وبالتنوين والنصب عند غيره، أي‏:‏ مبلغ ما يريد، لا يفوته مُراد، ولا يعجزه مطلوب‏.‏ ‏{‏قد جعل اللهُ لكل شيءٍ قَدْراً‏}‏؛ تقديراً، أو توقيتاً، أو مقداراً معلوماً ووقتاً محدوداً، لا يتقدمه ولا يتأخر عنه، وهذا حث على التوكل وترغيب فيه، لأنَّ العبد إذا عَلِمَ أنَّ الأمور كلها بيد الله، من الرزق وغيره وأنَّ لها وقتاً محدوداً لا يُجاوزه، توكل عليه، وانجمع بكليته عليه، ولم يبقَ له إلاّ التسليم للقدَر السابق‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ في الآية حض على التوكل، أي‏:‏ لا بد من نفوذ أمر الله تعالى، توكلتَ أيها المرء أم لم تتوكل، فإنْ توكلتَ على الله كفاك، وتعجّلت الراحة والبركة، وإن لم تتوكل وَكَلَك إلى جحدك وتسخُّطك، وأمره نافذ في الوجهين‏.‏ ه‏.‏

الإشارة‏:‏ ومَن يتق الله التقوى الكاملة، يجعل له من كمل مُشْكل وشُبهة ومتشابه مَخرجاً، فيَنحلّ له كل ما أشكل على الناس في أمر الدين والدنيا، ويرزقه من العلوم والأسرار والمعارف، ما لا يخطر على بال، من حيث لا يحتسب، من غير تعلُّم ولا مدارسة، وقال القشيري‏:‏ إذا صَدَقَ العبدُ في تقواه أخرجه من أشغاله، كالشعرة من العجين، لا يتعلق بها شيء، يضرب على المتقِي سرادقات عنايته، ويُدخله في كنف الإيواء ويصرف الأشغال، عن قلبه، ويُخرجه عن تدبيره، ويُجرده عن كل شغل، ويكفيه كل أمر، وينقله إلى شهود قضاء تقديره‏.‏ ه‏.‏

وقال الشيخ أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه في هذه التقوى‏:‏ أن تكون ظاهرة وباطنة، ظاهرة من المعاصي، وباطنة من المساوىء والدعاوى، أمّا مَن طهَّر ظاهره من المعاصي، وسَدّ الأُفق بالدعاوى وإضافة التدبير والاختيار لنفسه، فلا يقوم خيره بِشَرِّه، أي‏:‏ فلا يدخل في الآية‏.‏ ثم قال‏:‏ إلاّ مَن وَطَّن نفسه على الأرياح إلى أيّ وجهة تقلب، أي‏:‏ دار مع رياح الأقدار حيث دارت، ولم يسكن إلى شيء، وكان ممن قال اللهُ فيه‏:‏

‏{‏تتجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ المضاجع‏}‏ ‏[‏السجدة‏:‏ 16‏]‏، أتراه منع جنوبَهم من مضاجع النوم، وترك قلوبهم مضجعة وساكنة لغيره، بل رفع قلوبهم عن كل شيء، ولا يضاجِعُون أسرارهم شيئاً، فافهم هذا المعنى، تتجافى جُنوبهم عن مضاجعة الاختيار ومنازعة الأقدار، يدعون ربهم خوفاً وطمعاً، فالخوف قَطَعَهم عن غيره، وبالشوق إليه أطمعهم فيه، ومما رزقناهنم ينفقون‏.‏ ه‏.‏ مختصراً‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويَرْزُقه من حيثُ لا يحتسبُ‏}‏ قال في الحاشية الفاسية‏:‏ أي‏:‏ يرزقه المقدَّر في الأزل من حيث لا مشقة عليه في وصوله إليه، فيأكل ويلبس من غير انتظار، ولا استشراف نفس، ولا تعب، فيخرج له من الغيب بالبديهة ما يكفيه عن السؤال، ومَن عَرَف اللهَ عَرَفه بكمال قدرته وإحاطة علمه بكل ذرة، فيلقي زمام الاختيار إليه، فيكفيه كل مؤنه في الدنيا والآخرة، وهو السميع العليم، وقد قال سهل‏:‏ التقوى‏:‏ التبري من الحول والقوة‏.‏ ه‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومَن يتوكل على الله فهو حَسْبه‏}‏ قال القشيري‏:‏ فالله حاسبه، أي‏:‏ كافيه‏.‏ ‏{‏إِنَّ اللهَ بالغُ أَمْرِه‏}‏، إذا سَبَقَ له شيءٌ من التقدير، فلا محالةَ يكون، وفي التوكل لا يتغير المقدور ولا يتأخر، ولكنَّ المتوكل تكون ثقته بقلبه، غير كارهٍ لما يرد عليه، وهذا من أجَلِّ النعم‏.‏ ثم قال في موضع آخر‏:‏ التوكل‏:‏ شهود نَفْسِك خارجاً من المِنَّة، جارياً عليك أحكام التقدير من غير تدبيرٍ منك ولا اطلاع لك على حُكمه، فسبيلُ العبد‏:‏ الخمودُ والرضا دونَ استعلام الأمر‏.‏ وفي الخبر‏:‏ «أعوذ بالله من علم لا ينفع» ومن جملته‏:‏ أن يكون قد وقع لك شُغْلٌ، واستقبلك مُهمٌ، وقد اشتبه عليك وجهُ التدبير فيه، وتكون مُطالباً بالسُكون، فيطلبك العلم، وتتمنى أن تعرف متى يصلح هذا الأمر، وبأي سببٍ‏؟‏ وعلى أي وجهٍ‏؟‏ وعلى يد مَن‏؟‏ فهذا كله تخليطٌ، وغير مُسلَّم شيءٌ من ذلك للأكابر، وهو مِن العلم الذي يجب التعوُّذ منه، فيجب عليك السكون والرضا، فإذا جاء وقتُ الكَشْف، فسترى صورة الحال وتعرفه، وربما ينظر العبدُ في هذه الحالة تعريفاً في المنام، أوينظر في فال من الجامع اي‏:‏ ككتاب وشَبهه أو يرجو بيان حاله، بأن يجري على لسان مستنطق في الوقت، كلُّ هذا تركُ للأدب، واللهُ لا يَرْضى بذلك من أوليائه، بل الواجبُ السكون‏.‏ ه‏.‏

وقال في القوت‏:‏ والحسب إلى الحسيب يجعلُه ما شاء كيف شاء، فقد قيل‏:‏ ‏{‏فهو حَسْبُه‏}‏ أي‏:‏ التوكل حَسْبُه من سائر المقامات، ثم قال معرباً باللطافة، مسلياً للجماعة‏:‏ ‏{‏إِنَّ الله بالغ أمره‏}‏ أي‏:‏ منفذ حكمه فيمن توكل، ومَن لا يتوكل، إلاَّ أنّ مَن توكّل عليه يكون الله عزّ وجل حَسبه، أي‏:‏ يكفيه أيضاً مُهِم الدنيا والآخرة، ولا يزيد مَن لم يتوكل عليه جناح بعوضة في قسْمه، كما لا ينقص عليه ذرة من رزقه، لكن يزيد مَن توكل عليه هُدىً إلى هداه، ويرفعه مقاماً في اليقين قدر تقواه، ويُعزّه بعزّه، وينقص مَن لم يتوكل عليه من اليقين، ويزيده من التعب والهم، ويُشتت قلبَه، ويشغل فكرَه، فالمتوكل عليه يُجب له تكفير السيئات، ويُلقي عليه رضاه ومحبته في المقامات، أمّا الكفاية فقد ضَمِنها تعالى لِمن صدق في توكله عليه، والوقاية قد وهبها لمَن أحسن تفويضه إليه، إلاّ أنّ الاختيار وعلم الاستتار إليه في الكفاية والوقاية، يجعل ذلك ما يشاء كيف شاء، وأين شاء، من أمور الدنيا وأمور الآخرة، من حيث يعلم العبد، ومن حيث لا يعلم؛ لأنَّ العبد تجري عليه الأحكام في الدارين، وفقير محتاج إلى الرحمة واللطف في المكانين‏.‏

ه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏4- 5‏]‏

‏{‏وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا ‏(‏4‏)‏ ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا ‏(‏5‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏واللائي يَئِسْنَ من المحيض من نسائكم‏}‏ لكبرهن، وقدّروه بستين، أو‏:‏ بخمس وخمسين‏.‏ رُوي أنَّ ناساً قالوا‏:‏ قد عرفنا عِدة الأقراء، فما عدة التي لم تحض‏؟‏ فنزلت‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏إِن ارتبتمْ‏}‏ أي‏:‏ إن أشكل عليكم حكمهنّ كيف يعتددن، ‏{‏فعِدَّتهُنَّ ثلاثةُ أشهرٍ‏}‏ أو‏:‏ إن ارتبتم في حيضها، هل انقطع أو لم ينقطع، فعِدَّتها بالأشهر، وهي المرتابة التي غابت حيضتُها، وهي في سن مَن يحيض، واختلف فيها، فقيل‏:‏ ثلاثة أشهر على ظاهر الآية، وقيل‏:‏ تسعة، وتستبرىء بثلاثة، وهو المشهور في مذهب مالك وقدوته في ذلك عُمر بن الخطاب، لأنّ مذهبه عُمري، وقيل‏:‏ تعتد بالأقراء، ولو بلغت ثلاثين سنة، حتى تبلغ سن مَن لا يحيض، وهو مذهب الشافعي وأبي حنيفة‏.‏ ‏{‏واللائي لم يَحِضْنَ‏}‏ من صغر، فعدتهنّ ثلاثة أشهر، حذف لدلالة ما قبله، ‏{‏وأُولات الأحوالِ أجَلُهُنَّ‏}‏ أي‏:‏ عِدّتهن ‏{‏أن يضعن حَملَهن‏}‏ سواء كن مطلقات، أو متوفًّى عنهن أزواجهن، عند مالك والشافعي وأبي حنيفة وسائر العلماء‏.‏ وقال عليّ وابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ إنما هذا في المطلقات الحوامل، وأما المتوقَّى عنهن فعدّتهنَ أقصى الأجلين، إما الوضع، أو انقضاء أربعة أشهر وعشر، وحُجة الجمهور‏:‏ حديث سُبَيْعة، أنها لما مات زوجها، ووضعت، أَمَرَها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بالتزوُّج، وقد رُوي أن ابن عباس رجع إليه، ولو بلغ عليًّا لرجع، فهذه الآية مخصَّصة لِما في سورة البقرة من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والذين يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 234‏]‏‏.‏

تنبيه‏:‏ وَضْعُ الحمل إنما يُبرىء الرحم إذا كان من نكاح صحيح، وأمّا من الزنى فلا يُبرئ، باتفاقٍ، فمَن حملت مِن زنى وهي متزوجة فلا تحل للهارب الذي حملت منه إذا طُلّقت بوضع حملها منه، بل لا بد من ثلاثة قروء بعد الوضع، نَعَم مَن لا زوج لها من حُرةٍ أو أَمةٍ إذا حملت من زنى تمَّ استبراؤها بوضع حملها‏.‏

‏{‏ومَن يتقِ اللهَ‏}‏ في شأن أحكام العدة ومراعاة حقوقها ‏{‏يجعل له من أمره يُسراً‏}‏ أي‏:‏ يُسهل عليه أمره‏.‏ ويتحلّل عليه ما تعقّد ببركة التقوى، ‏{‏ذلك‏}‏ أي‏:‏ ما علَّمكم من الأحكام ‏{‏أمرُ الله أَنزله إِليكم‏}‏ لتعملوا به‏.‏ وإفراد الكاف مع أنّ المُشار إليهم جماعة؛ لأنها لتعيين الفرق بين البُعد والقرب، لا لتعيين خصوصية المخاطبين ‏{‏ومَن يتق الله‏}‏ بالمحافظة على أحكامه ‏{‏يُكفِّر عنه سيئاتِه‏}‏ فإنَّ الحسنات يُذهبن السيئات، ‏{‏ويُعْظِمْ له أجراً‏}‏ بالمضاعفة والتكثير‏.‏

الإشارة‏:‏ والنفوس التي يئسن من المساوىء والميل إلى الدنيا، ثم شككتم في تحقق طهارتها، تنتظر ثلاثة أشهر، فإذا مضت هذه المدة ولم يظهر منها ميل، فالغالب طهارتها، وكذلك النفوس الزكية، الباقية على الفطرة التي لم يظهر منها خَلل، تنتظر هذه المدة، فإن ظهرت سلامتها فلا مجاهدة عليها، والنفوس الحوامل بكثرة الأشغال عِدَّة تمام فتحها أن تضع كل ما يثقل عليها ويمنعها من السير، ولقد سمعتُ شيخنا البوزيدي رضي الله عنه يقول‏:‏ إن شئتم أن أُقسم لكم؛ إنه لا يدخل أحد عالَم الملكوت وفي قلبه علقة‏.‏

ه‏.‏ ‏{‏ومَن يتق الله‏}‏ أي‏:‏ يعزم على البر والتقوى يجعل له تعالى من أمره يُسراً، يُسهّل عليه طريق السلوك، ويكفيه كلَّ ما يُثقله ويشغله عنه، إما بإزالة ذلك له، أو بغيبته عن شؤونه، ومَن يتق الله بالفعل يُكَفِّر عنه سيئاتِه، أي‏:‏ يُغطّي عنه أوصافه الذميمة بأوصافه الحميدة، ويُعظم له أجراً بأن يفتح له باب مشاهدته‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏6- 7‏]‏

‏{‏أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى ‏(‏6‏)‏ لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آَتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آَتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا ‏(‏7‏)‏‏}‏

يقول الحق جّل جلاله‏:‏ ‏{‏أَسْكِنُوهُنَّ‏}‏ أي‏:‏ المطلَقات ‏{‏من حيثُ سَكَنتم‏}‏ أي‏:‏ مكاناً من حيث سكنتم، ف «من» للتبعيض، أي‏:‏ بعض مكانِ سكناكم‏.‏ قال قتادة‏:‏ لو لم يكن له إلاّ بيت واحد سكنها في بعض جوانبه‏.‏ ‏{‏من وُجْدِكُم‏}‏ أي‏:‏ وُسْعِكم، أي‏:‏ ما تطيقونه، فهو عطف بيان، أو بدل‏.‏ قال أبو حيان‏:‏ لا يُعرف عطف بيان يعاد فيه العامل، إنما هذا طريقة البدل مع حرف الجر، ولذلك أعربه أبو البقاء بدلاً‏.‏ ه‏.‏ والوجد، يجوز فيه الضم وهو أشهر والفتح والكسر‏.‏

قال ابن جزي‏:‏ فأمّا المطلقات غير المبتوتة فيجب لها على زوجها السُكُنَى والنفقة اتفاقاً، وأمّا المبتوتة ففيها ثلاثة أقوال، أحدها‏:‏ أنها يجب لها السكنى دون الفقة، وهو مذهب مالك والشافعي، والثاني‏:‏ أنها يجب لها السكنى والنفقة، وهو مذهب أبي حنيفة، والثالث‏:‏ أنها ليس لها سُكنى ولا نفقة، وهو قول محمد، وثابت البناني، وأُبي بن كعب‏.‏ فحُجة مالك‏:‏ حديث فاطمة بنت قيس، وهو أنَّ زوجها طلَّقها البتَّةَ، فقال لها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «ليس لك عليه نفقة»، فيوخذ منه‏:‏ أنَّ لها السُكْنى، وحُجة مَن أوجب لها السكنى والنفقة‏:‏ قول عمر بن الخطاب‏:‏ لا ندع آيةً من كتاب الله ربنا لقول امرأة، فإني سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ «لها السُكْنَى والنفقة»، وحجة مَن لم يجعل لها سكنى ولا نفقة‏:‏ أنَّ في بعض الروايات عنها أي‏:‏ فاطمة بنت قيس أنها قالت‏:‏ «لم يجعل لي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم نفقة ولا سُكْنَى»‏.‏

‏{‏ولا تُضارُّوهُنَّ‏}‏ في السُّكْنَى ‏{‏لِتُضيِّقُوا عليهن‏}‏ ويُلجأن إلى الخروج، ‏{‏وإِن كن‏}‏ أي‏:‏ المطلقات ‏{‏أُولات حملٍ فأَنفِقوا عليهن حتى يضعنَ حَملَهن‏}‏ فيخرجن من العِدّة‏.‏ قال ابن جزي‏:‏ اتفق العلماء على وجوب النفقة في العِدّة للمطلقة، عملاً بالآية، سواء كان الطلاق رجعيًّا أو بائناً‏.‏ واتفقوا أنَّ للمطلقة غير الحامل النفقة والسُكْنى في العِدّة إذا كان الطلاق رجعيًّا، فإن كان بائناً فاختلفوا في نفقتها حسبما ذكرناه، وأمّا المتوفَّى عنها إذا كانت حاملاً فلا نفقة لها عند مالك والجمهور، لأنهم رأوا أنَّ هذه الآية إنما هي في المطلقات‏.‏ وقال قوم‏:‏ لها النفقة في التركة‏.‏ ه‏.‏

‏{‏فإنْ أرضعنَ لكم‏}‏ هؤلاء المطلقات أولادَكم ‏{‏فآتوهن أجورَهُنَّ‏}‏ أي‏:‏ أجرة الرضاع، وهي النفقة وسائر المؤن المُفصل في كتب الفقه‏.‏ ‏{‏وأْتَمِرُوا بينكم بمعروفٍ‏}‏، خطاب للرجال والنساء، أي‏:‏ يأمر كلُّ واحد منكم صاحبَه بخيرٍ؛ من المسامحة والرفق والإحسان، ولا يكن من الأب مماكسة، ومن الأم معاسرة، أو‏:‏ تشاوروا بينكم على التراضي في الأجرة، ومنه‏:‏ ‏{‏إِنَّ الملأ يَأْتَمِرُونَ بِكَ‏}‏

‏[‏القصص‏:‏ 20‏]‏‏.‏ ‏{‏وإِن تعاسَرتمْ‏}‏؛ تضايقتم، فلم ترضَ الأمّ بما ترضع به الأجنبية، ‏{‏فستُرضِعُ له أخرى‏}‏؛ فستُوجد مرضعةٌ أخرى، غير متعاسرة، وفيه معاتبة للأم على المعاسرة‏.‏ والمعنى‏:‏ إن تشططت الأمّ على الأب في أجرة الرضاع، وطلبت منه كثيراً، فللأب أن يسترضع لولده امرأة أخرى بما هو أرفق إلاّ ألاَّ يَقبل الولدُ غيرها، فتُجبر على رضاعة بأجرة المثل‏.‏

‏{‏ليُنفق ذو سَعَةٍ من سَعته ومَن قُدِرَ عليه رزقُه فليُنفق مما آتاه اللهُ‏}‏ أي‏:‏ لِينفق كُلٌّ واحد من المعسر والموسر بما يبلغه وسعه، يعني‏:‏ ما أمر به من الإنفاق على المطلقات والمرضعات، ‏{‏ومن قَدِرَ‏}‏ أي‏:‏ ضُيِّق ‏{‏عليه رزقُه فلينفقْ‏}‏ عليها ‏{‏مما آتاه اللهُ‏}‏ فيَفرض الحاكمُ عليه ما يطيقه، ‏{‏لا يُكلِّف اللهُ نفساً إِلاَّ ما آتاها‏}‏؛ أعطاها من الرزق، وفيه تطييب قلب المعسر، وترغيب له في بذل مجهوده، وقد أكد ذلك بالوعد، حيث قال‏:‏ ‏{‏سيجعل اللهُ بعد عُسر يُسراً‏}‏ أي‏:‏ بعد ضيق في المعيشة سعة فيها، فإنّ عادته تعالى أن يُعقب العسر باليسر، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِنَّ مَعَ العسر يُسْراً‏}‏ ‏[‏الشرح‏:‏ 5‏]‏، وكرره مرتين، فلن يغلب عسر يسريْن‏.‏

الإشارة‏:‏ أسكِنوا نفوسَكم من حيث سكنتم بها قبل التوجه، فينبغي للمريد أن يسايس نفسه شيئاً فشيئاً، حتى يغيب عنها في شهود الحق، من غير تشديدٍ في إخراجها عن طبعها بالكلية، فإنها حينئذٍ تَملّ وتكِلّ، فقد قيل‏:‏ مَن سار إلى الله بموافقة طبعه كان الوصول إليه أقرب إليه من طبعه، ومَن سار إلى الله بمخالفة طبعه كان الوصول إليه على قدر بُعده عن طبعه، وفيه مشقة وحرج‏.‏ ولذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تُضاروهن لتُضيقوا عليهن‏}‏ لئلا تمل وترجع من حيث جاءت، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لا يكن أحدكم كالمُنْبَت، فلا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى»، نعم مخالفة طبعها في حب الظهور والجاه، أو حب الدنيا، واجب حتماً لا رخصة فيه، وهذه سيرة أشياخنا رضي الله عنهم لا يُضيقون على المريد في جوع ولا عطش، ولا كثرة رياضة، وإنما يأمرونه بالخمول وتخريب الظاهر والزهد التام، والورع الكامل، فقد سمعت شيخ شيخنا مولاي العربي الدرقاوي الحسني رضي الله عنه يقول‏:‏ سُدُّوا باب الطمع، وافتحوا باب الورع، واللهِ إن فعلتم ذلك حتى يستولي باطنكم على ظاهركم‏.‏ ه‏.‏ أي‏:‏ تستولي المعاني على الحس، فيتحقق الشهود الكامل‏.‏ وكان أيضاً يقول‏:‏ نحن لسنا مع جوعٍ ولا مع شبعة، نحن مع الله‏.‏ ه‏.‏ أي‏:‏ غائبون عن الجوع والشبع في ذكر الله وشهوده‏.‏

وإن كن أُولات حَمل، أي‏:‏ ثقل من كثرة العلائق، فأّنْفِقوا عليهن من الواردات الإلهية بصُحبة الرجال، حتى تصادم تلك العلائق، فتهدمها، فتضع الحمل عنها، فإن أرْضَعْن لكم، بإن تهذبت ورجعت روحانيةً تأتيك بالعلوم التي يرتضع منها القلب باليقين والمعرفة، فأتوهن أجورهن من البرّ بها والرفق، وائتمروا بينكم بمعروف، فتُؤمر أنت بالإحسان إليها، وتُؤمر هي بالطاعة لك، وإن تعاسرتم، بأن ضعفت هِمتكم، وقلّت أمدادكم، بعدم صحبة أهل الإمداد، فستُرضع له نفس أخرى، أي‏:‏ فليتخذ شيخاً كاملاً يُرضع له نفسه من ثدي أسرار العلوم والمعارف، ولذلك قيل‏:‏ مَن لا شيخ له فالشيطان شيخه، لِيُنفق ذو سعة من سعته، وهم الواصلون العارفون، يُنفقون من سعة علومهم وأسرارهم، على المريدين الذي استرضعوهم، ومَن قُدر عليه رزقه من المريدين السائرين فليُنفق مما آتاه الله على مَن تعلقَ به من المريدين، لا يُكلف الله نفساً إلاّ ما آتاها، سيجعل الله بعد عُسرٍ وضيقِ في العلوم والأسرار يُسراً، فتتسع عليه العلوم والأسرار بعد التمكين‏.‏

والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏8- 11‏]‏

‏{‏وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا ‏(‏8‏)‏ فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا ‏(‏9‏)‏ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آَمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا ‏(‏10‏)‏ رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آَيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا ‏(‏11‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏وكَأَيِّن من قريةٍ‏}‏ أي‏:‏ كثير من أهل قرية ‏{‏عَتَتْ‏}‏؛ أعرضت ‏{‏عن أمر ربها ورُسلِه‏}‏ أي‏:‏ عن طاعتهما على وجه العتوّ والعناد، ‏{‏فحاسبناها حِساباً شديداً‏}‏ بالاستقصاء والتنقير والمباحثة في كل نقير وقطمير، ‏{‏وعذَّبناها عذاباً نُكراً‏}‏؛ منكراً فظيعاً، والمراد‏:‏ إمّا عذاب الآخرة، والتعبير بالماضي لتحقُّق وقوعه، أو عذاب الدنيا، وهو أرجح؛ لأنه سيذكر عذاب الآخرة بعدُ بقوله‏:‏ ‏{‏أعدّ اللهُ لهم عذاباً شديداً‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الخ، ‏{‏فذاقت وَبَالَ أمرِها‏}‏ أي‏:‏ وخامة شأنها، وعقوبة فعلها‏.‏ قال في الصحاح‏:‏ والوَبَلَة بالتحريك‏:‏ الثِقَّلُ والوخَامةُ، وقد وَبُل المرتعُ بالضم وَبْلاً ووَبَالاً، فهو وَبيلٌ، أي‏:‏ وخِيمٌ‏.‏ ه‏.‏ وفي القاموس‏:‏ وبُلَ ككَرُمَ وبَالةً ووبالاً ووبُولاً، وأرض وَبِيلَةٌ‏:‏ وخيمةُ المرتَعِ‏.‏ ه‏.‏ ‏{‏وكان عاقبةُ أمرها خُسراً‏}‏ أي‏:‏ خساراً وهلاكاً‏.‏

‏{‏أعدَّ اللهُ لهم‏}‏ في الآخرة ‏{‏عذاباً شديداً‏}‏، وعلى أنَّ الكل في الآخرة يكون هذا تكريراً للوعيد وبياناً لكونه مترقباً، كأنه قال‏:‏ أعدّ الله لهم هذا العذاب الشديد، ‏{‏فاتقوا اللهَ يا أُولي الألبابِ‏}‏ في مخالفة أمره، واحذروا ما حلّ بمَن طغى وعتا‏.‏ وأولو الألباب هم أهل العقول الصافية، ثم فسَّرهم بقوله‏:‏ ‏{‏الذين آمنوا‏}‏ إيماناً خالصاً من شوائب الشرك والشك، فالموصول عطف بيان لأولي الألباب، أو نعت، أو منصوب بأعِني، ‏{‏قد أنزل اللهُ إِليكم ذكراً‏}‏ أي‏:‏ القرآن‏.‏

وانتصب ‏{‏رسولا‏}‏ بفعل مضمر، أي‏:‏ وأرسل رسولاً، أو‏:‏ هو بدل من «ذِكْراً» كأنه في نفسه ذكر، أو‏:‏ على تقدير حذف مضاف، قد أنزل ذا ذكر رسولاً، وأريد بالذكر‏:‏ الشرف، كقوله‏:‏ ‏{‏وَإِنَهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 44‏]‏ أي‏:‏ ذو شرف ومجدٍ عند الله، أو‏:‏ للمنزَل عليه، أو‏:‏ لقارئه، وبالرسول‏:‏ جبريل، أو محمد عليهما الصلاة والسلام ‏{‏يتلوا‏}‏ أي‏:‏ الرسول، أو الله عزّ وجل ‏{‏عليكم آياتِ الله مُبينات‏}‏ أي‏:‏ واضحاتٍ، قد بيَّنها اللهُ تعالى لقوله‏:‏ ‏{‏قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الأيات‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 118والحديد‏:‏ 17‏]‏ وقرىء بكسر الياء، أي‏:‏ تُبين ما تحتاجون إليه من الأحكام، ‏{‏لِيُخرج الذين آمنوا وَعمِلوا الصالحاتِ من الظلمات إِلى النور‏}‏ متعلق ب «يتلو»، أو‏:‏ ب «أنزل»، وفاعل «يُخرج» إما الله، أو الرسول، أي‏:‏ ليحصّل لهم الله أو الرسول ما هم عليه الآن من الإيمان والعمل الصالح، أو‏:‏ ليخرج من عَلِمَ وقدّر أنه سيؤمن، ‏{‏ومَن يؤمن بالله ويعمل صالحاً‏}‏ حسبما بُيّن في تضاعيف ما أنزل من الآيات المبينات ‏{‏يُدخله جنات تجري من تحتها الأنهارُ‏}‏، وقرأ نافع والشامي بنون العظمة ‏{‏خالدين فيها أبداً‏}‏، والجمع باعتبار معنى «من» كما أنَّ الإفراد في الضمائر الثلاثة باعتبار لفظها، ‏{‏قد أحسن اللهُ له رزقاً‏}‏ في الدنيا والآخرة‏.‏ قال القشيري‏:‏ الرزقُ الحَسَنُ‏:‏ ما كان على حَدِّ الكفاية، لا نقصان فيه، ليضعف عن كفاية صاحبه، ولا زيادةَ فيه تَشْغَلهُ عن ربهم‏.‏

ه‏.‏ بالمعنى‏.‏ وسيأتي في الإشارة بقيته‏.‏

الإشارة‏:‏ وكأيّن من قريةٍ من قرى القلوب عتت عن أمر ربها؛ عن تحمُّل أعباء العبودية؛ لأنّ القلب لا يحب إلا العلو والغنى والراحة، فإذا أراد العبد أن ينزل إلى الخمول والذل والفقر والتعب عَتَا وتَكَبَّر، وقد حكم اللهُ تعالى بالطبع على القلب المتكبّر، بقوله‏:‏ ‏{‏كَذَلِكَ يَطْبَعُ الله عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِرٍ جَبَّارٍ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 35‏]‏ في قراءة الإضافة، والمراد بالرسل‏:‏ الواردات القهرية، فالقلب أيضاً شأنه الفرار منها؛ لأنها تهدم عليه عوائده، وحسابه تعالى لها إحصاؤه لخواطرها، وعتابه عليها، وتعذيبه بالجزع والهلع، والحرص والطمع، وغم الحجاب وسوء الحساب، فهذا وبال القلوب المتكبِّرة على الله، وعلى أولياء الله، وعاقبتها حرمان نعيم الحضرة، ونسيم القربة‏.‏ فاتقوا الله يا أولي الألباب‏:‏ القلوب الصافية، أي‏:‏ دُوموا على تقواكم، واحْذروا مما حلّ بالقلوب الخاربة، الذين آمنوا إيمان الخصوص، قد أنزل الله إليكم ذكراً، أي‏:‏ مذكِّراً، رسولاً بعثه الله خليفةَ رسوله الأعظم صلى الله عليه وسلم، وهو الشيخ الداعي إلى الله، يتلو عليكم آياته، أي‏:‏ شواهده الموصِّلة إليه، ليُخرج الذين آمنوا وعملوا الأعمال الصالحات، وهي آداب العبودية، من ظلمات الجهل والغفلة، وحس الكائنات إلى نور العيان، ومَن يُؤمن بالله، ويثق به في جميع أموره، ‏(‏ويعمل صالحاً‏)‏ يُعرض عما سوى الله، يُدخله جنات المعارف، يخلد فيها، قد أحسن اللهُ له رزقاً لقلبه وروحه وسره، من العلوم والمعارف والأسرار‏.‏ قال القشيري بعد كلام‏:‏ وكذلك أرزاقُ القلوب أي‏:‏ تكون على حد الكفاية، من غير زيادة ولا نقصان ثم قال‏:‏ وحسنها‏:‏ أن يكون له من الأحوال ما يشتغلُ به في الوقت من غير نقصان يجعله يتعذّب بتعطُّشه، ولا تكون بزيادة، فيكون على خَطَرٍ من مغاليط لا يَخْرُجُ منها إلاّ بتأييدٍ من الله سماويٍّ‏.‏ ه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏12‏]‏

‏{‏اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا ‏(‏12‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏اللهُ الذي خلق سبعَ سموات‏}‏‏:‏ مبتدأ وخبر، وقد أجمع المفسرون أنَّ السموات سبع، ‏{‏ومن الأرض مثلَهن‏}‏، وليس في القرآن آية تدل على أنَّ الأرضين سبع غير هذه الآية، وبين كل سماءين مسيرة خمسمائة عام، وغلظ كلّ سماءٍ كلذلك، والأرضون مثل السموات، والجمهور أنها طباق، بعضها فوق بعض، بين كل أرض وأرض مسافة، كما بين السماء والأرض، وفي كل أرض سُكَّان مِن خلق الله تعالى، قيل‏:‏ الجن، وقيل‏:‏ الملائكة، وقال الضحاك‏:‏ مطبقة بعضها فوق بعض، من غير فتوق، بخلاف السموات‏.‏ قال القرطبي‏:‏ والأول هو الأصح؛ لأنَّ الأخبار دالة عليه، كما ورد في الحديث‏:‏ أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول إذا رأى قرية أو مدينة‏:‏ «اللهم رب السموات السبع، وما أظللن، ورب الأرضين السبع، وما أقللن‏.‏‏.‏‏.‏» الحديث‏.‏ وفي الحديث أيضاً‏:‏ «مَن غصب شبراً من أرض طوّقه الله له من سَبْع أرَضِين» ه‏.‏

واختلف‏:‏ هل يرون السماء، ويستمدًّون منها الضوء، قولان، أحدهما‏:‏ إنهم يُشاهدون السماء من كل جانب من أرضهم، ويستمدُّون الضياء منها، والثاني‏:‏ أنهم لا يُشاهدون السماء، وأنَّ الله تعالى خلق لهم ضياء يشاهدونه‏.‏ وعن ابن عباس أيضاً‏:‏ «إنها سبع أرضين متفرقة بالبحار وتظل الجميع السماء»‏.‏ وقيل‏:‏ الأرض واحدة إلاَّ أنَّ الأقاليم سبعة، فالمثلية على هذا في عِظم الجرم، وكثرة العمار، وغير ذلك‏.‏ والأول أرجح لِما تقدّم‏.‏ وقد ذكر المنذري حديثاً بيَّن فيه ما يعمرُ أرض، فبعضها فيها حجارة الكبريت وقوم جهنم، وبعضها فيها خزائن الريح، وفي أسفلها عرش إبليس، فانظره‏.‏

‏{‏يَتَنزَّلُ الأمرُ بينهن‏}‏ أي‏:‏ يجري أمره وقضاؤه بينهن، وينفذ حكمُه فيهن‏.‏ وعن قتادة‏:‏ في كل سماءٍ وفي كل أرضٍ خلقٌ مِن خلقه، وأمرٌ نافذ من أمره، وقضاء من قضائه‏.‏ وقيل‏:‏ هو ما يدبّر فيه من عجائب تدبيره، من إنزال المطر، وإنبات النبات، والإتيان بالليل والنهار، والصيف والشتاء، وخلق الحيوانات المختلفة‏.‏ وقال الغزالي‏:‏ يتنزّل الأمر بالقدر من حضرة الربوبية إلى حملة العرش، ثم تتلقى ملائكة السموات ذلك منهم، ثم تصريفهم بذلك إلى أهل الأرض، وإجرائهم على مقتضاه‏.‏ وقيل‏:‏ يتنزّل الأمر بالوحي من السماء السابعة إلى الأرض السفلى، وهل لكل أرض رسول، أم لا‏؟‏ الله أعلم‏.‏

‏{‏لتعلموا أنَّ اللهَ على كل شيءٍ قديرٌ‏}‏ أي‏:‏ فعل ذلك لتعلموا عموم قدرته، ‏{‏وأنَّ اللهَ قد أحاط بكل شيءٍ علماً‏}‏ لاستحالة صدور هذه الأفاعيل المذكورة ممن ليس كذلك‏.‏ ويجوز أن يكون العامل في اللام بيان ما ذكر من الخلق وتنزُّل الأمر، أي‏:‏ أوضَحَ ذلك بيّنه لتعلموا بما ذكر من الأمور التي تُشاهدونها، والتي تتلقونها من الوحي، وعجائب المصنوعات، أنه لا يخرج عن قدرته وعلمه شيء أصلاً‏.‏

الإشارة‏:‏ سموات الأرواح سبع طبقات، تعرج فيها إلى عرش الحضرة‏.‏ سماء التوبة، ثم سماء الصبر، ثم سماء الورع والزهد، ثم سماء الرضا والتسليم، ثم سماء المحبة، ثم سماء المراقبة، ثم سماء المشاهدة، ثم الاستواء على عرش الحضرة، في حضرة الأسرار‏.‏ وأرض العبودية سبع أيضاً، وبالتنزُّل فيها تهوي النفس إلى عرش إبليس، في حضرة الفرق، وبالخروج عنها تعرج في سماوات الأرواح، وهي أرض الشهوة، ثم أرض الغفلة، ثم أرض حب الدنيا، ثم أرض حب العلو والجاه، ثم أرض هَم الرزق وخوف الفقر، ثم أرض التدبير والاختيار، ثم أرض الغضب والحقد والحسد، فبهذه الأخلاق المذمومة يهوي العبد إلى أسفل سافلين‏.‏ فإذا ترقّى عن هذه الأرضين، وسما في سماء الأرواح، يتنزّل على قلبه الوحي الإلهامي، والكشف الرباني‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏يتنزل الأمر بينهن لتعلموا أنّ الله على كل شيءٍ قدير‏}‏، أي‏:‏ ليحصل لكم العلم الحقيقي بقدرة الله وعلمه وإحاطة ذاته‏.‏

قال الورتجبي‏:‏ لو كانت للأشباح قيمة في المعرفة كالأرواح لم يخاطبها بالعلل والاستدلال، لتعلم برؤية الأشياء وجود الحق، وكانت كالأرواح في الخطاب بلا عِلّة في تعريف نفسه إياها بقوله‏:‏ ‏{‏أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 172‏]‏ هناك خطاب وشهود وتعريف بلا عِلّة، فلما عَلِمَ عجزها عن حمل واردات الخطاب الصِّرف أحالها إلى الشواهد، وليس بعارفٍ في الحقيقة مَن عرفه بشيءٍ من الأشياء، وسببٍ من الأسباب، فمَن نظر إلى خلق الكون يعرف أنه ذو قدرة واسعة وإحاطة شاملة، يخاف من قهره، ويذوب قلبه بعلمه في رؤية اطلاع الحق تعالى عليه‏.‏ ه‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏ وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلّم‏.‏

سورة التحريم

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 2‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏1‏)‏ قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ‏(‏2‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏يا أيها النبي لِمَ تُحَرِّمُ ما أحلَّ اللهُ‏}‏‏.‏ في سبب نزول هذه السورة روايتان؛ إحداهما‏:‏ أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء يوماً إلى بيت زوجه حفصة، فوجدها ذهبت لزيارة أبيها، فبعث إلى جاريته مارية، فقال معها في البيت، فجاءت حفصة، فقالت‏:‏ يا رسول الله؛ أما كان في نسائك أهون مني، أتفعل هذا في بيتي، وعلى فراشي‏؟‏ فقال لها عليه الصلاة والسلام‏:‏ «أيُرضيك أن أُحَرِّمها» ‏؟‏ فقالت‏:‏ نعم، فقال‏:‏ «إني قد حَرّمتها» زاد ابن عباس‏:‏ وقال مع ذلك‏:‏ «والله لا أطؤها أبداً»، ثم قال لها‏:‏ «لاتُخبري بهذا أحداً، وأُبشرك أنَّ أبا بكر وعمر يملكان بعدي أمر أمتي» ثم إنِّ حفصة قرعت الجدار الذي بينها وبين عائشة، وأخبرتها، وكانتا مصادقتين، ولم ترَ في إفشائها حَرَجاً، واستكتمتها، فأوحى الله إلى نبيه بذلك‏.‏ ورُوي أنه عليه السلام طلَّق حفصة، واعتزل نساءه، فمكث تسعاً وعشرين ليلة في بيت مارية، فنزل جبريلُ، وأمره برَدِّها، وقال له‏:‏ إنها صوّامة قوّامة، وإنها من نسائك في الجنة، فردَّها‏.‏

والرواية الثانية‏:‏ أنه عليه الصلاة والسلام كان يدخل على زوجه زينب بنت جحش، فتسقيه عسلاً، فاتفقت عائشةُ وحفصة وسودة على أن تقول له مَن دنا منهن‏:‏ أكلتَ مغافير، وهو ضمغ العُرفُط، وهو حلو كريه الريح، ففعل ذلك، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لا، ولكني شربتُ عسلاً»، فقُلن له‏:‏ جَرَست نحلُه العُرفُط أي‏:‏ أكلت، ويقال للنحل‏:‏ جراس، فقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لا أشربه أبداً»، وكان يكره أن توجد منه رائحة كريهة، فدخل بعد ذلك على زينب، فقالت‏:‏ ألاَ أسقيك من ذلك العسل‏؟‏ فقال‏:‏ «لا حاجة لي به» فنزلت الآية عتاباً له على أن ضيَّق على نفسه تحريم الجارية والعسل‏.‏ والرواية الأولى أشهر عند المفسرين والثانية خرّجها البخاري في صحيحه‏.‏

فإن قلتَ‏:‏ لِمَ عاتبه اللهُ على هذا التحريم، ولم يعاتب يعقوبَ على تحريم لحوم الإبل على ما ذكر في سورة آل عمران‏؟‏ قلتُ‏:‏ رتبة نبينا عليه الصلاة والسلام أرفع في المحبة والاعتناء، فلم يرضَ منه أن يُضيّق على نفسه، أرأيت إن كان لك ولد تُحبه، ووسعتَ عليه، ثم أراد أن يُضيّق على نفسه، فإنك لا ترضى له ذلك، محبةً فيه، وشفقة عليه‏.‏ وانظر تفسير ابن عرفة‏.‏

قال ابن جزي‏:‏ ولنتكلم على فقه التحريم‏:‏ فأمّا تحريم الطعام والمال وسائر الاشياء ما عدا النساء فلا يلزم، ولا شيء عليه فيه عند مالك، وأوجب عليه أبو حنيفة كفارة اليمين، وأمّا تحريم الأَمة فإن نوى به العتق لزم، وإن لم ينو به ذلك لم يلزم، وكان حكمه ما ذكرناه في الطعام، وأمَا تحريم الزوجة، فاختلف الناس فيه على أقوال كثيرة، فقال أبو بكر الصدّيق وعمر بن الخطاب وابن عباس وعائشة وغيرهم‏:‏ إنما يلزم فيه كفارة يمين‏.‏

ه‏.‏ قلت‏:‏ وظاهره‏:‏ سواء قال لها‏:‏ أنتِ حرام، أو حلف بالحرام واحداً أو ثلاثاً، وسواء كان منجّزاً أومعلّقاً، كما إذا قال‏:‏ كل امرأة تزوجتُها عليكِ فهي حرام، مثلاً، فلا يلزم من ذلك شيء على قول هؤلاء السادات رضي الله عنهم‏.‏ ثم قال‏:‏ وقال مالك في المشهور عنه‏:‏ هي ثلاث تطليقات في المدخول بها وينوي في غيرها، وقال ابن الماجشون‏:‏ هي ثلاث في الوجهين، ورُوي عن مالك‏:‏ أنها طلقة بائنة قلتُ‏:‏ وبهذا جرى العمل اليوم وقيل‏:‏ رجعية‏.‏ ه‏.‏

‏{‏تبتغي مَرْضَاتَ أزواجِك‏}‏‏:‏ حال، أو استئناف مُبيّن للحال الداعي، أي‏:‏ تطلب رضا أزواجك بالتضييق على نفسك، والمراد‏:‏ رضا حفصة، وهذا يُؤيد أنها نزلت في تحريم الجارية، وأمّا تحريم العسل فلم يقصد به رضا أزواجه، وإنما تركه لرائحته‏.‏ ‏{‏واللهُ غفور‏}‏ أي‏:‏ غفور لك ما كان تركه أولى من الصدع بالحق من غير مبالاة بأحدٍ، ولا تُضيّق على نفسك، ‏{‏رحيم‏}‏ بك، حيث وسّع عليك، ولم يرضَ لك أن تُضيق على نفسك‏.‏ قال القشيري‏:‏ ظاهرُ هذا الخطاب عتابٌ على كونه حَرَّمَ على نفسه ما أحلّه اللهُ لمراعاة قلب امرأته، والإشارة فيه‏:‏ وجوب تقديم حق الله على كل شيء في كل وقت‏.‏ ثم قال تعالى، عنايةً بأمره‏:‏ ‏{‏قد فرض اللهُ لكم تَحِلَّةَ أيمانكم‏}‏ وتجاوزاً عنه بما كان تركه أولى‏.‏ ه‏.‏

والحاصل‏:‏ أنه تعالى غفر له ميله للسِّوى سهواً، والسهو قهرية الحق تعالى، قهر بها عبادَه ليتميّز ضعف العبودية من قوة الربوبية، وهو ليس بنقصٍ في حق البشر، لكنه لمّا كان في الغالب لا يحصل إلاَّ مع عدم العزم عُدَّ تفريطاً وهفوة، كما قال تعالى في حق آدم‏:‏ ‏{‏فَنَسِىَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 115‏]‏، فالمغفرة في الحقيقة، وطلب التوبة من السهو، إنما هو لقلة العزم وعدم الحزم، وحسنات الأبرار سيئات المقربين، ولا تصغ بأذنك إلى ما قاله الزمخشري ومَن تبعه من كون ما فعله عليه السلام زلة، حيث حرّم ما أحلّ الله، فإنه تجاسر على منصب النبوة، وقلة أدب‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ما أحلّ الله لك‏}‏ زيادة «لك» تَرُدّ ما زعمه الزمخشري، ولو كان كما قال لقال له‏:‏ لِم تحرم ما أحلّ الله‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏قد فَرَضَ اللهُ لكم تَحِلَّةَ أَيمانكم‏}‏ أي‏:‏ شرع لكم تحليلها، وهو حل ما عقده بالكفَّارة، أو بالاستثناء متصلاً، والأول هو المراد هنا، وهل كفَّر عليه الصلاة والسلام‏؟‏ قال مقاتل‏:‏ أعتق رقبةً، وقال الحسن‏:‏ لم يُكفِّر؛ لأنه مغفور له‏.‏ قال بعضهم‏:‏ هذه التحلة إنما هي لليمين المقرونة بالتحريم، وقال بعضهم‏:‏ بل هي لنفس التحريم، وبه تمسّك أبو حنيفة في تحريم الحلال، فأوجب كفارةَ اليمين‏.‏

‏{‏واللهُ مولاكم‏}‏ أي‏:‏ سيدكم ومتولي أمورَكم، فلا يُحب ما ضيّق عليكم‏.‏ قال في الحاشية الفاسية‏:‏ ومَن تأمّل هذه السورة لاح له منزلةَ حبيب الله عند الله، وحقق معنى قول عائشة‏:‏ «يا رسول الله؛ ما أرى ربك إلاّ يُسارع في هواك» الحديث متفق على صحته ه ‏{‏وهو العليمُ‏}‏ بما يُصلحكم، فيشرعه لكم، ‏{‏الحكيمُ‏}‏ المتقن في أفعاله وأحكامه، فلا يأمركم ولا ينهاكم ألاَّ بما تقتضيه الحكمة البالغة‏.‏

الإشارة‏:‏ هذا العتاب يتوجه لكل مَن سبقت له عند الله عناية وزلفى، إذا ضَيّق على نفسه فيما أحلّ اللهُ له، فلا يرضى منه ذلك، محبةً فيه، وقد صدر مني مثل هذا زمان الوباء، فحلفت لبعض أزواجي‏:‏ أني لا أتزوج عليها، وسبب ذلك أنها كانت مصارِمة لي، في غاية الغضب والقطيعة، وقد كان غلب على ظني الموت، لِما رأيتُ من الازدحام عليه، فخفتُ أن نموت متقاطعَين، فلمّا حلفتُ لها رأى بعض الفقراء من أصحابنا‏:‏ أنه يقرأ عليّ أو معي‏:‏ ‏{‏يا أيها النبي لِمَ تُحرم‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الخ السورة، ففهمت الإشارة على أنّ اليمين لا تلزم، والله أعلم، لأنّ بساط اليمين كان غلبة ظن الموت، فلما تخلّف انحل اليمين، كقضية الرجل الذي وجد الزحام على اللحم، فحلف لا يشتري لحماً أبداً، ثم وجد الفراغ، فقال مالك‏:‏ لا يلزمه شيء‏.‏ ه‏.‏

وقال الورتجبي‏:‏ أدب نبيه عليه الصلاة والسلام ألاَّ يستبد برأيه، ويبتع ما يُوحى إليه‏.‏ ه‏.‏ وجعل القشيري النبيَّ إشارة إلى القلب، أي‏:‏ يا أيها القلب المتوجِّه لِمَ تُحرم ما أحلّ الله من حلاوة الشهود، تبتغي مرضاة نفسك وحظوظها، فتتبع هواها، وتترخّص في مباحات الشريعة، وهي تحجب عن أسرار الحقيقة، أو‏:‏ لِمَ تُحرِّم ما أحلّ الله من الاستغراق في سُكر بحر الحقيقة، تبتغي مرضاة بقاء نفسك، والشعور بوجودها‏.‏ وكان صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ «لي وقت لا يَسعني فيه غير ربي» وكان يقول لعائشة حين يغلب عليه السُكْر والاضمحلال في الحق‏:‏ «كلميني حركيني يا حميراء» وكذلك القلب إذا غلب عليه الوجد، وخاف من الاصطلام، أو مِن مَحق البشرية، يطلب مَن يبرد عليه مِن نفسه أو مِن غيره، وقد سَمِعْتُ مِن شيخ شيخنا رضي الله عنه أنه قال‏:‏ كان يغلب عَلَيَّ الوجد والسكر، فكنت أذهبُ إلى مجالسة العوام ليبُرد عليّ الحال، خوفاً من الاصطلام أو المحق، وذلك بعد وفاة شيخه‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏والله غفور رحيم‏}‏ أي‏:‏ فلا يؤاخذ العبدَ بهذا الميل اليسير إلى الحس، دواء لنفسه، قد فرض اللهُ لكم تحلةَ أيمانكم، أي‏:‏ الميل اليسير إلى الرفق بالنفس؛ لأنها مطية القلب، بمجاهدتها يصل إلى كعبة الوصول، وهي حضرة الرب‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏3- 5‏]‏

‏{‏وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ ‏(‏3‏)‏ إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ ‏(‏4‏)‏ عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا ‏(‏5‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏وإِذ أَسَرَّ‏}‏ أي‏:‏ واذكر أيها السامع حين أَسَرَّ ‏{‏النبيُّ إِلى بعض أزواجه‏}‏ يعني حفصة ‏{‏حديثاً‏}‏؛ حديث تحريم مارية، أو العسل، أو إمامة الشيخين، ‏{‏فلما نَبَّأَتْ به‏}‏ أي‏:‏ أخبرت حفصةُ عائشةَ بالحديث وأفشته، فحذف المفعول، وهو عائشة، ‏{‏وأظْهَرَه اللهُ عليه‏}‏ أي‏:‏ أطلع اللهُ تعالى نبيَّه عليه الصلاة والسلام على إفشاء حفصة على لسان جبريل عليه السلام، أو‏:‏ أظهر الله عليه الحديث، من الظهور، ‏{‏عَرَّفَ بعضَه‏}‏ أي‏:‏ عرَّف النبيُّ صلى الله عليه وسلم حفصةَ بعض الحديث الذي أفشته، قيل‏:‏ هو حديث الإمامة، رُوي أنه عليه الصلاة والسلام قال لها‏:‏ «ألم أقل لك اكتمي عليّ» ‏؟‏ قالت‏:‏ «والذي بعثك بالحق ما ملكتُ نفسي» فرحاً بالكرامة التي خَصَّ اللهُ تعالى بها أباها‏.‏

‏{‏وأَعْرَضَ عن بعضٍ‏}‏ فلم يُخبرها تكرُّماً‏.‏ قال سفيان‏:‏ ما زال التغافل من فعل الكرام، وقال الحسن‏:‏ ما استقصى كريم قط‏.‏ وقرأ الكسائي‏:‏ «عَرَف» بالتخفيف، أي‏:‏ جازى عليه، من قولك للمسيء‏:‏ لأعْرِفَنَّ لك ما فعلت، أي‏:‏ لأجازينَّك عليه، فاجازاها عليه السلام بأن طلَّقها، وآلى من نسائه شهراً، وقعد في مشربة مارية حتى نزلت آية التخيير، وقيل‏:‏ هَمَّ بطلاقها، فقال له جبريل‏:‏ لا تُطلِّقها، فإنها صوّامة قوّامة‏.‏ ه‏.‏ قيل‏:‏ المعرّف‏:‏ حديث الإمامة، والمعرَض عنه‏:‏ حديث مارية‏.‏ ‏{‏فلما نَبَّأها به‏}‏ أي‏:‏ أخبر صلى الله عليه وسلم حفصةَ بما عرفه من الحديث، قالت حفصة للنبي عليه السلام‏:‏ ‏{‏مَن أنبأكَ هذا قال نبأنيَ العليمُ الخبيرُ‏}‏ الذي لا تخفى عليه خافية‏.‏

‏{‏إِن تتوبا إِلى الله‏}‏، الخطاب لحفصة وعائشة، على الالتفات للمبالغة في العتاب، ‏{‏فقد صَغَتْ قُلوبُكما‏}‏؛ مالت عن الواجب في مخالصة رسول الله صلى الله عليه وسلم، مِن حُب ما يُحبه، وكراهة ما يكرهه، وكان عليه الصلاة والسلام شقَّ عليه تحريم مارية وكَرِهَه، وهما فرحا بذلك‏.‏ وجواب الشرط‏:‏ محذوف، أي‏:‏ إن تتوبا إلى الله فهو الواجب، فقد زالت قلوبكما عن الحق، أو‏:‏ تُقبلْ توبتكما، أو هو‏:‏ «فقد صغت» أي‏:‏ إن تتوبا زاغب قلوبكما فاستوجبتما التوبة، أو‏:‏ فقد كان منكما ما يقضي أن يُتاب منه‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وهذا الجواب للشرط، وهو متقدم في المعنى، وإنما نزلت جواباً في اللفظ‏.‏ ه‏.‏ وقُرىء «زاغت» من الزيغ‏.‏

‏{‏وإِن تَظَاهرا عليه‏}‏ أي‏:‏ تتعاونا عليه بما يسوؤه، من الإفراط في الغيرة، وإفشاء سرّه، والفرح بتحريم مارية، ‏{‏فإِنَّ اللهَ هو مولاه‏}‏؛ وليُّه وناصره، وزيادة «هو» إيذان‏:‏ أنّه يتولّى ذلك بذاته بلا واسطة، ‏{‏وجبريلُ‏}‏ أيضاً وليّه، الذي هو رئيس الملائكة المقرّبين، ‏{‏وصالحُ المؤمنين‏}‏ أي‏:‏ ومَن صلح مِن المؤمنين، أي‏:‏ كل مَن آمن وعمل صالحاً، وقيل‏:‏ مَن برىء مِن النفاق، وقيل‏:‏ الصحابة جملة، وقال ابن عباس‏:‏ أبو بكر وعمر، ورُوي مرفوعاً، وبه قال عكرمة ومقاتل، وهو اللائق؛ لتوسيطه بين جبريل والملائكة عليهم السلام، فإنه جمع بين التظاهر المعنوي والتظاهر الحسي، فجبريل ظاهَره عليه السلام بالتأييدات الإلهية، وهما وزيراه وظهيراه في أمور الرسالة، وتمشية أحكامها الظاهرة، ولأنَّ تظاهرهما له صلى الله عليه وسلم أشد تأثيراً في قلوب ينتيْهما، وتوهيناً في حقهما، فكانا حقيقا بالذكر، بخلاف ما إذا أريد به جنس الصالحين، كما هو المشهور‏.‏

قاله أبو السعود‏.‏

‏{‏والملائكةُ‏}‏ مع تكاثر عددهم وامتلاء السموات من جموعهم ‏{‏بعد ذلك‏}‏ أي‏:‏ بعد نصرةِ الله عزّ وجل، وناموسه الأعظم، وصالح المؤمنين، ‏{‏ظهيراً‏}‏ أي‏:‏ فوْج ظهير مُعاون له، كأنهم يد واحدة على مَن يعاديه، فماذا يفيد تظاهر امرأتين على مَنْ هؤلاء ظُهراؤه‏؟‏ ولمّا كانت مظاهرة الملائكة من جملة نصرة الله، قال‏:‏ ‏{‏بعد ذلك‏}‏ تعظيماً لنصرتهم ومظاهرتهم‏.‏

‏{‏عسى ربُّه إِن طَلَّقكُنَّ أن يُبْدِلَه‏}‏ بالتخفيف والتشديد للتكثير، أي‏:‏ يعطيه اللهُ تعالى بدلكن ‏{‏أزواجاً خيراً منكن‏}‏، قال النسفي‏:‏ فإن قلتَ‏:‏ كيف تكون المبدّلات خيراً منهنَ، ولم يكن على وجه الأرض نساء خيراً من أمهات المؤمنين‏؟‏ قلتُ‏:‏ إذا طلّقهنّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لإيذائهنّ إياه لم يبقين على تلك الصفة، وكان غيرهن من الموصوفات بهذه الأوصاف خيراً منهن‏.‏ ه‏.‏ وأجاب أبو السعود‏:‏ بأنّ ما عُلّق بما لم يقع لا يجب وقوعه‏.‏ ه‏.‏ وليس فيه ما يدلّ على أنه صلى الله عليه وسلم لم يُطلِّق حفصة، فإنّ تعليق طلاق الكل لا ينافي تطليق واحدة‏.‏

ثم وصف المبدَلات بقوله‏:‏ ‏{‏مُسلماتٍ مؤمناتٍ‏}‏ أي‏:‏ مُقرّات مخلصات، أو‏:‏ منقادات مصدّقات، ‏{‏قانتاتٍ‏}‏؛ طائعات، فالقنوت‏:‏ هو القيام بطاعة الله، وطاعة الله في طاعة رسوله، ‏{‏تائباتٍ‏}‏ من الذنوب ‏{‏عابداتٍ‏}‏؛ متعبدات متذللات، ‏{‏سائحاتٍ‏}‏؛ صائمات، وقيل للصائم‏:‏ سائح؛ لأنَّ السائح لا زاد معه، فلا يزال ممسكاً إلى أن يجد من يُطعمه، فشبّه به الصائم في إمساكه إلى وقت إفطاره، أو‏:‏ مهاجرات‏.‏ قال زيد بن أسلم‏:‏ لم يكن في هذه الأمة سياحة إلاَّ الهجرة، ‏{‏ثيباتٍ وأبكاراً‏}‏، إنما وسط العاطف بين الثيبات والأبكار، دون سائر الصفات؛ لأنهما صفتان متباينتان، وعَطْف الأبكار على الثيبات من باب الترقي من الأدنى إلى الأعلى، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً ولاَ كَبِيرَةً‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 121‏]‏‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ توجه العتاب له صلى الله عليه وسلم مرتين في تحريم الجارية، وفي إخفائه لذلك، إذ فيه بعض مراقبة الخلق، والعارف لا يُراقب إلاّ الحق، فهذا قريب من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَتَخْشَى الناس والله أّحَقُّ أَن تخشاه‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 37‏]‏، ففيه من التصوُّف‏:‏ أنَّ العارف يكون الناس عنده كالموتى، أو كالهباء في الهواء، وفي الحديث عنه عليه الصلاة والسلام‏:‏ «لا يؤمن أحدكم حتى يكون الناس عنده كالأباعر»

إذا ليس بيدهم نفع ولا ضر‏.‏

وإشارة الآية على ما قال القشيري‏:‏ وإذ أَسَرَّ القلبُ إلى بعض أزواجه، وهي النفس والهوى، حديث المخالفة، على طريق «شاوروهنّ وخالِفوهنّ» فلما نبأت النفسُ الهوَى لتفعلا ذلك، وأظهره الله عليه بوحي الإلهام، عَرَّف بعضَه وأعرض عن بعض، أي‏:‏ عاتبهما على البعض، وسامحهما في الآخر، فلما نبأ القلبُ النفسَ بما أفشت للهوى، قالت‏:‏ مَن أنبأك هذا‏.‏‏.‏ الخ، إن تتوبا إلى الله، وتنقادا لحكمه فقد وقع منكما ما يوجب التوبة، وإن تظاهرا على القلب بتزيين المخالفة وتتبع الحظوظ والشهوات، فإنَّ الله هو مولاه، ينصره بالأجناد السماوية والأرضية، من التأييدات والواردات، عسى ربه إن طلقكن وغاب عنكن أن يُبدله أخلاقاً طيبة، ونفوساً مطمئنة، مسلماتٍ مؤمناتٍ قانتاتٍ تائباتٍ، عابداتٍ سائحاتٍ بأفكارها في ميادين الغيوب، وبحار التوحيد، ثيبات، أي‏:‏ تأتي بعلوم الرسميات وأبكار الحقائق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏6- 7‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ‏(‏6‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏7‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا قُو أنفسَكم‏}‏ أي‏:‏ نَجُّوها من النار، بترك المعاصي وفعل الطاعات، ‏{‏وأهليكم‏}‏ بأن تأخذوهم بما تأخذون به أنفسكم، أو بان تُعلِّموهم وتُرشدوهم‏.‏ قال القشيري‏:‏ أظهٍروا من أنفسكم الطاعات ليتعلموا منكم ويقتادوا بأفعالكم‏.‏ ه‏.‏ وفي الحديث‏:‏ «رحِم الله امرءاً قال‏:‏ يا أهلاه، صلاتَكم صيامَكم مسْكينَكم، يتيمَكم» أي‏:‏ الزموا ما ينفعكم، فمَن له أهل وأهملهم من التعلُّم والإرشاد عُوتب عليهم، أي‏:‏ احملوهم على الطاعة، لتَقُوهُمْ ‏{‏ناراً وقُودُهَا الناسُ والحجارةُ‏}‏ أي‏:‏ نوعاً من النار لا تتّقد إلاّ بالناس والحجارةن كما تتّقد غيرها بالحطب‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ هي حجارة الكبريت، فهي أشد الأشياء حرًّا‏.‏ ‏{‏عليها ملائكةٌ‏}‏ تلي أمرها والتعذيبَ بها، وهي الزبانية، ‏{‏غِلاظٌ شِدادٌ‏}‏؛ غلاظُ الأقوال، شِدادُ الأحوال، أو‏:‏ غلاظُ الخلْق، شِداد الخُلُق، أقوياءُ على الأفعال الشديدة، لم يخلق اللهُ فيهم رحمة، ‏{‏لا يَعْصُون اللهَ ما أَمَرَهم‏}‏ أي‏:‏ لا يعصون أمره، فهو بدل اشتمال من «الله» أو‏:‏ فيما أمرهم، على نزع الخافض ‏{‏ويفعلون ما يؤمرون‏}‏ من غير تراخ ولاتثاقل، وليست الجملتان في معنى واحد؛ إذ معنى الأولى‏:‏ أنهم يمتثلون أمره ويلتزمونها، ومعنى الثانية‏:‏ أنهم يُؤدون ما يُؤمرون به، ولا يتثاقلون عنه ولا يتوَانون فيه‏.‏

ويُقال للكفرة يوم القيامة عند دخولهم النار‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين كفروا لا تعتذروا اليومَ‏}‏ إذ لا ينفعكم عذركم؛ حيث فرَّطتم في الدنيا، ‏{‏إِنما تُجْزَون‏}‏ اليوم ‏{‏ما كنتم تعملون‏}‏ في الدنيا من الكفر والمعاصي، بعدما نُهيتُم عنها، وأُمرتم بالإيمان والطاعة، فلا عُذر لكم قطعاً‏.‏

الإشارة‏:‏ قُوا أنفسكم نارَ الحجبة والقطيعة، بتخليتها من الرذائل، وتحليتها بالفضائل، ليلحقوا بكم في درجاكم‏.‏ ونار القطيعة وقودها الناس، أي‏:‏ عامة الناس والقلوب القاسية، عليها ملائكة غِلاظ شِداد، وهم القواطع القهرية، فمَن كفر بطريق الخصوصية لا ينفعه يوم القيامة اعتذاره، حين يسقط عن درجة المقرَّبين الأبرار وبالله التوفيق‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏8‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏8‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا تُوبوا إِلى الله توبةً نَصوحاً‏}‏ أي‏:‏ بالغة في النصح، وُصفت بذلك مجازاً، وهي وصف للتائبين، وهو أن ينصحوا بالتوبة أنفسَهم، فيأتوا بها على طريقتها، وذلك أن يتوبوا عن القبائح، لقبْحها، نادمين عليها، مغتمِّين أشد الاغتمام لارتكابها، عازمين على أنهم لا يعودون إلى قبيح من القبائح، وقيل‏:‏ نصوحاً‏:‏ صادقة، وقيل‏:‏ خالصة، يُقال‏:‏ عسل ناصح‏:‏ إذا خلص من شمعه، وقيل‏:‏ مِن نصاحة الثوب، أي‏:‏ ترقيعه، لأنها ترقع خروقك في دينك وترمّ خللك، وقيل‏:‏ توبة تنصح الناس، أي‏:‏ تدعوهم إلى مثلها؛ لظهور آثارها في صاحبها، باستعمال الجد والعزيمة في العمل على مقتضياتها، ومَن قرأ بضم النون فمصدر، أي‏:‏ ذات نصوح، أو تنصح نصوحاً‏.‏ وفي الحديث‏:‏ «التوبة النصوح أن يتوب، ثم لا يعود إلى الذنب إلى أن يعود اللبن في الضرع» وعن حذيفة‏:‏ «بحسب الرجل من الشر أن يتوب من الذنب ثم يعود فيه» وعن ابن عباس رضي الله عنه‏:‏ «هي الاستغفار باللسان، والندم بالجنان، والإقلاع بالأركان»‏.‏

‏{‏عسى ربُّكم أن يُكَفِّرَ عنكم سيئاتِكم‏}‏، هذا على ما جرى به عادة الملوك من الإجابة بعسى ولعل، ووقوع ذلك منهم موقع القطع والبت‏.‏ وقيل‏:‏ عبّر ب «عسى» للإشعار أنّ المغفرة تفضل وإحسان، وأنّ التوبة غير موجبة لها، ولِيَبقى العبد بين خوف ورجاء ولو عمل ما عمل‏.‏ ‏{‏ويُدْخِلَكم جناتٍ تجري من تحتها الأنهارُ يومَ لا يُخزي اللهُ النبيَّ‏}‏‏.‏ هو ظرف ل «يدخلكم» ‏{‏والذين آمنوا معه‏}‏‏:‏ عطف على «النبي» و«معه»‏:‏ ظرف لآمنوا، وفيه تعريض بمَن أخزاهم الله من الكفرة‏.‏ ‏{‏نُورُهُمْ‏}‏‏:‏ مبتدأ، و‏{‏يسعى‏}‏ خبره، أي‏:‏ يُضيء ‏{‏بين أيديهم وبأَيمانهم‏}‏ أي‏:‏ على الصراط وفي مواطن القيامة، ‏{‏يقولون‏}‏ حال، أي‏:‏ قائلين حين ينطفىء نور المنافقين‏:‏ ‏{‏ربنا أتمم لنا نورنا واغفرْ لنا إِنك على كل شيءٍ قديرٌ‏}‏، وقيل‏:‏ يدعون بذلك تقرُّباً إلى الله مع تمام نورهم، وقيل‏:‏ تتفاوت أنوارهم بحسب أعمالهم، فيسألون إتمامه تفضُّلاً، وقيل‏:‏ السابقون إلى الجنة يمرون مثل البرق على الصراط وبعضهم كالريح وبعضهم كأجاود الخيل، وبعضهم حبواً، وزحفاً، وهم الذين يقولون‏:‏ ‏{‏ربنا أَتمم لنا نورنا‏}‏‏.‏ وقد تقدّم‏:‏ أنَّ مِن المقربين مَن تُقرّب لهم غُرف الجنات فيركبون فيها، ويسرحون إلى الجنة، ومنهم مَن يطير في الهواء إلى باب الجنة، فيقول الخزنة‏:‏ مَن أنتم‏؟‏ فيقولون‏:‏ وحن المتحابُّون في الله، فيقول‏:‏ اذهبوا فنِعْمَ أجر العاملين، ويقول بعضهم لبعض‏:‏ أين الصراط الذي وُعدنه، فيُقال لهم‏:‏ جزتموه ولم تشعروا‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ توبةُ العامة من الذنوب، وتوبةُ الخاصة من العيوب، وتوبة خاصة الخاصة من الغيبة عن حضرة علاّم الغيوب، فهؤلاء أشد الناس افتقاراً إلى التوبة؛ إذ لا بُد للعبد من سهوٍ وسِنةٍ حتى يجول بقلبه في الأكوان، أو يميل عن الاعتدال، فيجب في حقهم الاستغفار منها، ولذلك كان عليه الصلاة والسلام يستغفر في المجلس الواحد سبعين أو مائة مرة‏.‏

وقد تكلم السّلفُ عن التوبة النصوح دون ما تقدّم، فقال ابن جبير‏:‏ هي التوبة المقبولة، ولا تُقبل إلا بثلاثة شروط‏:‏ خوف ألاَّ تُقبل منه، ورجاء أن تُقبل، وإدمان الطاعة‏.‏ وقال ابن المسيب‏:‏ توبة تنصحون بها أنفسكم، وقال القرظي‏:‏ يجمعها أربعة‏:‏ الاستغفار باللسان، والإقلاع بالأبدان، وترك العود بالجنان، ومهاجرة سيىء الخلان‏.‏ وقال الثوري‏:‏ علامتها أربعة‏:‏ القِلة، والعِلة، والذلة، والغربة‏.‏ وقال الفضيل‏:‏ هو أن يكون الذنب نصب عينيه‏.‏ وقال الواسطي‏:‏ تكون لا لعرض دنيوي ولا أخروي‏.‏ وقال أبو بكر الورّاق‏:‏ هي أن تضيق عليك الدنيا بما رَحُبتْ، كحالة الذين خُلِّفوا‏.‏ وقال رُويم‏:‏ أن تكون لله وجهاً بلا قفا، كما كنت عند المعصية قفا بلا وجه، وقالت رابعة‏:‏ توبة لا ارتياب فيها، وقال السري‏:‏ لا تصلح التوبة النصوح إلاّ بنصيحة النفس والمؤمنين؛ لأنَّ مَن صحّت توبته أَحبَّ أن يكون الناس مثله، وقال الجنيد‏:‏ هي أن تنسى الذنب فلا تذكره أبداً؛ لأنَّ مَن أحب اللهَ نسي ما دونه‏.‏ ه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏9‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ‏(‏9‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏يا أيها النبيُّ جاهِدِ الكفارَ‏}‏ بالسيف ‏{‏والمنافقين‏}‏ بالحجة، أو‏:‏ بالقول الغليظ والوعظ البليغ، أو‏:‏ بإقامة الحدود، ولم يؤمر بقتالهم لِتَسَتُّر ظاهرهم بالإسلام، «أُمرت أن أحكم بالظواهر، والله يتولى السرائر»، ‏{‏واغْلُظْ عليهم‏}‏؛ واستعمل الخشونة على الفريقين فيما تجاهدهما به من القتال والمخاصمة باللسان‏.‏ ‏{‏ومأوَاهم جهنمُ‏}‏ يُباشرون فيها عذاباً غليظاً، ‏{‏وبئس المصيرُ‏}‏ جهنم، أو مصيرهم‏.‏

الإشارة‏:‏ كُلُّ إنسان مأمور بجهاد أعدائه، من النفس، والهوى، والشيطان، وسائر القواطع، وبالغلاظ عليهم، حتى يُسلموا وينقادوا لحُكمه أو تقل شوكتهم، وهذا هو الجهاد الأكبر، لدوامه واتصاله، فمَن دام عليه حتى ظفر بعدوه، أو لقي ربه، كان مِن الصدّيقين، الذين درجتهم فوق درجة الشهداء، تلي درجة المرسَلين‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏10- 12‏]‏

‏{‏ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ ‏(‏10‏)‏ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آَمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ‏(‏11‏)‏ وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ ‏(‏12‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ «مثلاُ»‏:‏ مفعول ثان لضرب، أي‏:‏ جعل، و«امرأةَ»‏:‏ مفعول أول، أي‏:‏ جعل امرأة نوح وامرأة لوط مثلاُ مضروباً للذين كفروا‏.‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏ضَرَبَ اللهُ مثلاً للذين كفروا‏}‏، ضَرْبُ المثل في أمثال هذه المواقع عبارة عن‏:‏ إيراد حالة غريبة ليُعرف بها حالة أخرى، مشاكِلة لها في الغرابة، أي‏:‏ ضرب الله مثلاً لحال الذين كفروا حيث يُعاقَبون على كفرهم وعداوتهم للمؤمنين، ولا ينفعهم ما كان بينهم وبين المؤمنين من النسب والمصاهرة بهاتين المرأتين، ‏{‏امرأتَ نوحٍ وامرأتَ لوطٍ‏}‏ قيل‏:‏ اسم الأولى‏:‏ واهلة، والثانية‏:‏ راعلة، ‏{‏كانتا تحت عبدين من عبادنا صَالِحَينِ‏}‏ أي‏:‏ كانتا في عصمة نبييْن عظيميْن، متمكنين من تحصيل خير الدنيا والأخرة، وحيازة سعادتهما، ‏{‏فخانتاهما‏}‏ بإفشاء سرهما، أو بالكفر والنفاق، ‏{‏فلم يُغنيا عنهما من الله شيئاً‏}‏ أي‏:‏ فلم يُغن الرسولان عن المرأتين بحق ما بينهما من الزواج شيئاً من الإغناء من عذاب الله تعالى، ‏{‏وقيل‏}‏ لهما عند موتهما، أو يومَ القيامة‏:‏ ‏{‏ادخلا النارَ مع الداخلين‏}‏ أي‏:‏ مع سائر الداخلين من الكفرة، الذين لا وصلة بينهم وبين الأنبياء‏.‏

قال القشيري‏:‏ لما سبقتً للمرأتين الفُرْقةُ يوم القِسْمة لم تنفعهما القرابةُ يومَ العقوبة‏.‏ ه‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وقول مَن قال‏:‏ إنَّ في المثلَين عبرة لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم بعيد‏.‏ ه‏.‏ قلت‏:‏ لا بُعد فيه لذكره إثر تأديب المرأتين، وليس فيه غض لجانبهنّ المعظم، إنما فيه إيقاظ وإرشاد لما يزيدهم شرفاً وقُرباً من تعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم وطاعته، وصيانة سِره، والمسارعة إلى ما فيه محبتُه ورضاه، وكل مَن نصحك فقد أحبّك، وكل مَن أهملك فقد مقتك‏.‏

‏{‏وضَرَبَ اللهُ مثلاً للذين آمنوا‏}‏ في أنهم ينفعهم إيمانهم، ولو كانوا تحت قهرية الكفرة، حيث لم يميلوا عنه، ‏{‏امرأة فرعونَ‏}‏، وهي أسية بنت مزاحم، وهي عمة موسى عليه السلام، آمنت به فعذّبها بالأوتاد الأربعة، وتَدَ يديها ورجليها وألقاها في الشمس على ظهرها، وألقى عليها صخرةَ عظيمة، فأبصرت بيتَها في الجنة، من دُرة، وانتزع اللهُ روحَها، فلقيتها الصخرة بلا روح، فلم تجد ألماً، وقال سَلْمَان‏:‏ كانت امرأة فرعون تُعذَّب بالشمس، فإذا انصرفوا عنها أظلتها الملائكة، وفيه بيان أنها لم تمِل عن الإيمان مع شدة ما قاست من العذاب، وكذا فليكن صوالح النساء، وأمر عائشة وحفصة أن يكونا كآسية هذه‏.‏ ه‏.‏ من الثعلبي‏.‏

‏{‏إِذ قالتْ‏}‏‏:‏ ظرف لمحذوف أي‏:‏ ضرب مثلاً لحالها حين قالت‏:‏ ‏{‏رَبِّ ابْنِ لي عندكَ‏}‏ أي‏:‏ قريباً من رضوانك ‏{‏بيتاً في الجنة‏}‏ أو‏:‏ في أعلى درجات المقربين، رُوي‏:‏ أنها لَمّا قالت ذلك أُريت بيتها في الجنة‏.‏ ‏{‏ونجِّني من فرعونَ وعملِهِ‏}‏ أي‏:‏ من نفسه الخبيثة وعمله السيىء ‏{‏ونجني من القوم الظالمين‏}‏ أي‏:‏ من القبط التابعين له في الظلم قال الحسن وابن كيسان‏:‏ نجاها الله أكرمَ نجاةٍ، ورفعها إلى الجنة، فهي فيها تأكل وتشرب‏.‏

ه‏.‏

‏{‏ومريمَ ابنة عمرانَ‏}‏‏:‏ عطف على «امرأة فرعون» أي‏:‏ وضرب اللهُ مثلاً للذين آمنوا حالَها وما أُتيت من كرامة الدنيا والآخرة والاصطفاء على نساء العالمين، مع كون قومها كفاراً، ‏{‏التي أحْصَنَتْ فَرْجَها‏}‏؛ حفظته ‏{‏فنفخنا في مِن روحنا‏}‏ المخلوقة لنا، أو‏:‏ من روح خَلقتُه بلا واسطة، ‏{‏وصدَّقتْ بكلماتِ ربها‏}‏؛ بصُحفه المنزلة، أو‏:‏ بما أوحى اللهُ إلى أنبيائه، ‏{‏وكتابه‏}‏ أي‏:‏ جنس الكتاب الشامل للكل، وقرأ البصري وحفص بالجمع، أي‏:‏ كُتبه الأربعة، وقُرىء‏:‏ «بكلمة الله وكتابه» أي‏:‏ بعيسى وبالكتاب المنزَّل عليه الإنجيل، ‏{‏وكانت من القانِتين‏}‏ أي‏:‏ من عدة المواظبين على الطاعة، والتذكير للتغليب، والإشعار بأنَّ طاعتها لم تقصر عن طاعة الرجال، حتى عُدت من جملتهم، أو كانت من نسل القانتين؛ لأنها من أعقاب هارون، أخي موسى عليهما السلام‏.‏ وعن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «كَمُل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا أربع‏:‏ آسية بنت مزاحم، ومريم بنت عمران، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم، وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام»‏.‏

قال النسفي‏:‏ وفي طيِّ هذين التمثيلين تعريض بأمَّيِّ المؤمنين المذكورتين في أوّل السورة، وما فرط منهما من التظاهر على رسول الله صلى الله عليه وسلم بما كَرِهه، وتحذير لهما على أغلظ وجه، وإشارة إلى أنّ مِن حقهما أن تكونا في الأخلاق كهاتين المؤمنتين، وألاّ تتكلا على أنهما زوجا رسول الله صلى عليه وسلم‏.‏ ه‏.‏ وفي الثعلبي‏:‏ وقال ابن عباس وجماعة‏:‏ قطع اللهُ بهذه الآية طمَعَ مَن ركب المعصية، ورجا أن ينفعه صلاح غيره، وأخبر أنّ معصية غيره لا تضره إذا كان مطيعاً‏.‏ ه‏.‏

الإشارة‏:‏ قال القشيري‏:‏ المرأتان الكافرتان إشارة إلى النفس الأمّارة والهوى المتَّبع، أي‏:‏ كانتا تحت القلب والروح، فخانتاهما، حيث غلبتا القلبَ والروحَ، وجذبتاهما إليهما، فمال القلب إلى الحظوظ الجسمانية، ومالت الروحُ إلى الحروف الظلمانية، كحب الجاه والرئاسة والكرامة، فلم تُغنيا عنهما من الله شيئاً، حيث فاتهما اليقين والمعرفة العيانية، والمرأتان المؤمنتان إشارة إلى النفس المطمئنة والقلب المطمئن، حيث غلبا النفس الأمّارة والهوى، لم يضرهما صحبتهما، فقالت النفس المطمئنة‏:‏ ربّ ابن لي عندك بيتاً في الجنة، في مقعد صدق عند مليك مقتدر، والقلب لمّا حَفِظً نفسه من دخول العلل، نفخ الحقُّ فيه من روحه، فأحياه به، وأشْهَده أنوار قدسه، فصدّق بكلمات الله الدالة على ذاته، ثم ترقَّى إلى شهود المتكلِم، وكان من القانتين، فجمع بين شهود عظمة الربوبية وآداب العبودية‏.‏

قال الورتجبي‏:‏ ‏{‏فنفخنا فيه‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية، أي‏:‏ ظهر فيه نور الفعل، ثم ظهر في نور الفعل نور الصفة، فظهر في نور الصفة نور الذات، فكان بنور الذات والصفات حيًّا موصوفاً بصفاته، ناظراً إلى مشاهدة نور ذاته، لم تنقطع عنه أنوار الذات والصفات والفعل أبداً‏.‏

وهذه خاصية لمَن له أثر من روحه‏.‏ قال بعضهم‏:‏ نفخ من نوره في روح عبده، ليحيي بذلك الروح، ويحيى به، ويطلب النورَ ولا يغفل عن طلب المُنوِّر، فيعيش في الدنيا حميداً، ويُبعث في الآخرة شهيداً، فلمّا وجدت رَوحُ روحِ الله صدّقت بظهوره في العالم، وشبيه قلوب العالمين بأنه يكون مرآة الحق للخلق، وذلك قوله‏:‏ ‏{‏وصَدَّقت بكلمات ربها‏}‏ ولمّا باشر أنوار القدس وروح الأنس كادت نفسها أن تميل إلى السكر في الأنانية، فسبق لها العناية، وأبقاها في درجة العبودية، حتى لا تسقط بالسُكر عن مقام الصحو، ألآ ترى كيف قال‏:‏ ‏{‏وكانت من القانتين‏}‏ أي‏:‏ من المستقيمين في معرفتها بربها، ومعرفتها بقيمة نفسها أنها مُسَخَّرة عاجزة لربها‏.‏ ه‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏ وصلّى الله على سيدنا محمد وآله‏.‏